{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }
{وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأنثى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{والليل إذا يغشى} أقسم الله سبحانه وتعالى بالليل إذا يغشى يعني حين يغشى الأرض ويغطيها بظلامه، لأن الغشاء بمعنى الغطاء. {والنهار إذا تجلى} أي: إذا ظهر وبان، وذلك بطلوع الفجر الذي هو النور الذي هو مقدمة طلوع الشمس، والشمس هي آية النهار كما أن القمر آية الليل. {وما خلق الذكر والأنثى} يعني وخَلْق الذكر والأنثى على أحد التفسيرين الذي جعل (ما) هنا مصدرية، والذي خَلَق الذكر والأنثى وهو الله عز وجل على التفسير الآخر. فعلى المعنى الأول: يكون الله سبحانه وتعالى أقسم بخلق الذكر والأنثى. وعلى الثاني: يكون الله تعالى أقسم بنفسه، لأنه هو الذي خلق الذكر والأنثى. {إن سعيكم لشتى} يعني إن عملكم {لشتى} أي لمتفرق تفرقاً عظيماً.
فالله عز وجل أقسم بأشياء متضادة على أشياء متضادة: الليل ضد النهار، الذكر ضد الأنثى، السعي متضاد صالح وسيىء، فتناسب المقسم به والمقسم عليه، وهذا من بلاغة القرآن. فالمعنى أن اختلاف الليل والنهار والذكر والأنثى أمر ظاهر لا يخفى، فكذلك أعمال العباد متباينة متفاوتة، منها الصالح، ومنها الفاسد، ومنها ما يخلط صالحاً وفاسداً، كل ذلك بتقدير الله عز وجل، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ثم فصّل هذا السعي المتفرق فقال: {فأما من أعطى واتقى. وصدق بالحسنى. فسنيسره لليسرى}. {فأما من أعطى} أي: أعطى ما أمر بإعطائه من مال، أو جاه، أو علم. {واتقى} اتقى ما أمر باتقائه من المحرمات. {وصدق بالحسنى} أي: صدق بالقولة الحسنى وهي قول الله عز وجل، وقول رسوله صلى الله عليه وسلّم، لأن أصدق الكلام، وأحسن الكلام كلام الله عز وجل. {فسنيسره لليسرى} السين: هنا للتحقيق أي: أن من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى، فسييسره الله عز وجل لليسرى في أموره كلها، في أمور دينه ودنياه، ولهذا تجد أيسر الناس عملاً هو من اتقى الله عز وجل، من أعطى واتقى وصدق بالحسنى. وكلما كان الآنسان أتقى لله كانت أموره أيسر له. قال تعالى: {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسًرا}. [الطلاق: 4]. وكلما كان الآنسان أبعد عن الله كان أشد عسراً في أموره ولهذا قال: {وأما من بخل} فلم يعط ما أمر بإعطائه {واستغنى} استغنى عن الله عز وجل، ولم يتق ربه، بل رأى أنه في غنى عن رحمة الله. {وكذب بالحسنى} أي: بالقولة الحسنى، وهي قول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. {فسنيسره للعسرى} ييسر للعسرى في أموره كلها، ولكن قد يأتي الشيطان للإنسان فيقول: نجد أن الكفار تيسر أمورهم فيقال: نعم. قد تيسر أمورهم، لكن قلوبهم تشتعل ناراً وضيقاً وحرجاً كما قال تعالى: {ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء}. [الآنعام: 125]. ثم ما ينعمون به فهو تنعيم جسد فقط، لا تنعيم روح، ثم هو أيضاً وبال عليهم لقول الله تعالى فيهم: {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين}. [الأعراف: 182، 183]. وقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته»(145). وتلا قوله تعالى: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد}. [هود: 102]. وهؤلاء عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، ومع ذلك فإن هذه الدنيا جنة لهم بالنسبة للآخرة. وقد ذكروا عن ابن حجر العسقلاني شارح البخاري بالشرح الذي سماه (فتح الباري) وكان قاضي القضاة بمصر، أنه مر ذات يوم وهو على عربته تجره البغال والناس حوله، مر برجل يهودي سمان يعني: يبيع السمن والزيت، ومن المعلوم أن الذي يبيع السمن والزيت تكون ثيابه وسخة وحاله سيئة فأوقف العربة وقال لابن حجر: إن نبيكم يقول: «الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر»(146)، فكيف أنا أكون بهذه الحال وأنت بهذه الحال؟ فقال له ابن حجر على البديهة: أنا في سجن بالنسبة لما أعد الله للمؤمنين من الثواب والنعيم، لأن الدنيا بالنسبة للآخرة ليست بشيء كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم «لموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها»(147)، وأما أنت أيها اليهودي: فأنت في جنة بالنسبة لما أعد لك من العذاب إن مت على الكفر فاقتنع بذلك اليهودي وصار ذلك سبباً في إسلامه وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله.
ثم قال عز وجل: {وما يغني عنه ماله إذا تردى} يعني أي شيء يغني عنه ماله إذا بخل به وتردى . أي: هلك أي شيء يغني المال؟ لا يغني شيئاً.
{إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا للآخرة وَالاُْولَى * فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى * لاَ يَصْلَـهَآ إِلاَّ الاَْشْقَى * الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى * وَسَيُجَنَّبُهَا الاَْتْقَى * الَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لاَِحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ الاَْعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى}.
{إن علينا للهدى} فيه التزام من الله عز وجل أن يبين للخلق ما يهتدون به إليه. والمراد بالهدىهنا: هدى البيان والإرشاد فإن الله تعالى التزم على نفسه بيان ذلك حتى لا يكون للناس على الله حجة وهذا في قوله تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} [النساء: 163]. إلى أن قال: {رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}. [النساء: 165]. فلا يمكن للعقل البشري أن يستقل بمعرفة الهدى، ولذلك التزم الله عز وجل بأن يبين الهدى للإنسان {إن علينا للهدى} وليُعلم أن الهدى نوعان:
1 ـ هدى التوفيق. فهذا لا يقدر عليه إلا الله.
2 ـ هدى إرشاد ودلالة، فهذا يكون من الله، ويكون من الخلق: من الرسل عليهم الصلاة والسلام، ومن العلماء.
كما قال الله لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم}. [الشورى: 52]. أما هداية التوفيق فهي إلى الله لا أحد يستطيع أن يوفق شخصاً إلى الخير كما قال الله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} [القصص: 56]. وإذا نظرنا إلى هذه الآية الكريمة {إن علينا للهدى} وجدنا أن الله تعالى بين كل شيء. بين ما يلزم الناس في العقيدة، وما يلزمهم في العبادة، وما يلزمهم في الأخلاق، وما يلزمهم في المعاملات، وما يجب عليهم اجتنابه في هذا كله. حتى قال أبو ذر رضي الله عنه: لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما(148)ً. وقال رجل من المشركين لسلمان الفارسي: علمكم نبيكم حتى الخراءة(149)، قال: أجل علمنا حتى الخراءة. يعني: حتى آداب قضاء الحاجة علمها النبي صلى الله عليه وسلّم أمته، ويؤيد هذا قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}.[المائدة: 3]. {وإن لنا للآخرة والأولى} يعني: لنا الآخرة والأولى. الأولى متقدمة على الآخرة في الزمن، لكنه في هذه الآية أخرها لفائدتين:
الفائدة الأولى: معنوية.
الفائدة الثانية: لفظية.
أما المعنوية فلأن الآخرة أهم من الدنيا، ولأن الآخرة يظهر فيها ملك الله تعالى تماماً. في الدنيا هناك رؤساء، وهناك ملوك، وهناك أمراء يملكون ما أعطاهم الله عز وجل من الملك، لكن في الآخرة لا ملك لأحد {لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} [غافر: 16]. فلهذا قدم ذكر الآخرة من أجل هذه الفائدة المعنوية.
أما الفائدة اللفظية: فهي مراعاة الفواصل يعني: أواخر الآيات كلها آخرها ألف.
فإن قيل: إن الله سبحانه وتعالى قال: {إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى} فما الفرق؟
الجواب: الفرق أن الهدى التزم الله تعالى ببيانه وإيضاحه للخلق، أما الملك فهو لله ملك الآخرة والأولى، ولهذا قال: {وإن لنا للآخرة والأولى} ثم قال عز وجل: {فأنذرتكم نارًا تلظى} {فأنذرتكم} يعني: خوفتكم {ناراً} يعني بها نار الآخرة. {تلظى} تشتعل، ولها أوصاف كثيرة في القرآن والسنة. {لا يصلاها إلا الأشقى} {لا يصلاها} يعني: لا يحترق بها {إلا الأشقى} يعني الذي قدرت له الشقاوة. والشقاوة ضد السعادة لقوله تعالى: {فأما الذين شقوا ففي النار} [هود: 106]. وقوله: {وأما الذين سعدوا ففي الجنة} [هود: 108]. فالمراد بالأشقى يعني: الذي لم تكتب له السعادة، هذا هو الذي يصلى النار التي تلظى. ثم بين هذا بقوله: {الذي كذب وتولى} التكذيب في مقابل الخبر، والتولي في مقابل الأمر والنهي. فهذا كذب الخبر ولم يصدق، قيل له: إنك ستبعث. قال: لا أبعث. قيل له: هناك جنة ونار. قال: ليس هناك جنة ونار. قيل له: سيكون كذا وكذا، قال: ما يكون. هذا تكذيب. {تولى} يعني أعرض عن طاعة الله، وأعرض عما جاءت به رسله، فهذا هو الشقي. {وسيجنبها} أي: يجنب هذه النار التي تلظى {الأتقى} والأتقى اسم تفضيل من التقوى يعني: الذي اتقى الله تعالى حق تقاته. {الذي يؤتي ماله يتزكى} يعني: يعطي ماله من يستحقه على وجه يتزكى به، أي: يتطهر به، قال الله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم}. [التوبة: 103]. فقوله: {الذي يؤتي ماله يتزكى} يفيد أنه لا يبذر ولا يبخل، وإنما يؤتي المال على وجه يكون به التزكية، وضابط ذلك ما ذكره الله في سورة الفرقان {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً}. [الفرقان: 67]. نجد بعض الناس يعطيه الله مالاً، ولكنه يبخل يقتر حتى الواجب عليه لزوجته وأولاده وأقاربه لا يقوم به. ونرى بعض الناس قدر الله عليه الرزق وضيق عليه بعض الشيء، ومع هذا يذهب يتدين من الناس من أجل أن يكمل بيته حتى يكون مثل: بيت فلان وفلان، أو من أجل أن يشتري سيارة فخمة كسيارة فلان وفلان، وكلا المنهجين والطريقين منهج باطل. الأول: قصر. والثاني: أفرط. والواجب على الآنسان أن يكون إنفاقه بحسب حاله.
فإن قال قائل: هل يجوز أن يتدين الآنسان ليتصدق؟
فالجواب: لا. لأن الصدقة تطوع، والتزام الدّين خطر عظيم، لأن الدين ليس بالأمر الهين، فالآنسان إذا مات وعليه دين فإن نفسه معلقة بدينه حتى يقضى عنه، وكثير من الورثة لا يهتم بدين الميت، تجده يتأخر يماطل وربما لا يوفيه. وقد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا قدمت إليه جنازة سأل هل عليه دين؟ أله وفاء؟ فإن قالوا لا، قال: «صلوا على صاحبكم»(150). وأخبر صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن الشهادة في سبيل الله تكفر كل شيء إلا الدين(151)، فالدين أمره عظيم، لا يجوز للإنسان أن يتهاون به ثم قال: {وما لأحد عنده من نعمة تجزى} يعني أنه لا يعطي المال مكافأة على نعمة سابقة من شخص فليس لأحد عليه فضل حتى يعطيه مكافأة، ولكنه يعطي ابتغاء وجه الله ولهذا قال: {إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى}. فهو لا ينفق إلا طلب وجه الله، أي طلب الوصول إلى دار كرامة الله التي يكون بها رؤية الله عز وجل. {ولسوف يرضى} يعني سوف يرضيه الله عز وجل بما يعطيه من الثواب الكثير وقد بين الله ذلك في قوله: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم} [البقرة: 261]. نسأل الله أن يجعلنا من هؤلاء البررة الأطهار الكرام، إنه على كل شيء قدير.
--------------------------------------
(145) تقدم تخريجه ص (137) .
(146) أخرجه مسلم كتاب الزهد باب الدنيا سجن للمؤمن وجنة للكافر (2956) (1) .
(147) تقدم تخريجه ص (205) .
(148) أخرجه الإمام أحمد (5/153) .
(149) أخرجه مسلم كتاب الطهارة ، باب الإستطابة (262) (57) .
(150) أخرجه البخاري كتاب الكفالة باب من تكفل عن ميتٍ ديناً (2295) ومسلم كتاب الفرائض باب من ترك مالاً فلورثته (1619) (14) .
(151) أخرجه مسلم كتاب الإمارة باب من قتل في سبيل الله كفرت خطاياه إلا الدين (1885) (117) .